منذ أن نشر انكتيل دوبرون مجلداته الثلاثة سنة 1771 عن زرادشت وكتاب الأفستا صار من المسلَّم به في الدراسات التاريخية أن زرادشت شخصية حقيقية تاريخية، وليس أسطورة من أساطير الشرق تدور أحاديثه عن العفاريت كما أشارت إلى ذلك بعض المدونات القديمة عن مقارنة الأديان، وكما يحلو لكثير من الشرقيين خاصة أن يدعي اليوم، إما استهانة بديانته التي ضاع أكثرها، وإما تقليلاً من شأنه وشأن المنطقة التي ينتمي إليها. وقد استقر رأي كبار المؤرخين الذين اشتغلوا بتاريخ إيران القديم منذ ما يقاب القرنين من أمثال جايكر ودارمستيتر على أن مولد ونشاة رزادشت كان في ماد (ميديا) أو في Atropatene شمال غربي إيران وفوق منطقة ماد، وأن مركز دعوته كان في بلخ/Bactria، ولعل سبب هجرة زرادشت من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق هو اتفاق الأكراد على عدم الاعتراف بهذا النبي الجديد، كما سهل هجرته اعتراف ملك بلخ (حالياً في أفغانستان) بدعوته والإيمان بها، وبعد أن انتشرت دعوته في إيران وآسيا الوسطى والهند أصبح الأكراد من أكثر المناصرين له والداعين لدينه ويشهد لذلك وجود أعرق وأكبر المعابد الزرادشتية في منطقة كردستان إيران حالياً. وهذا الانتقال يفسر لنا كذلك أوجه التشابه بين لهجة البشتو المنتشرة في أفغانستان (اللهجة التي يعدها دارمستيتر خلف صدق للغة الأفستا القديمة!) وبين بعض اللهجات الكردية. وأبدأ بضمير المتكلم المفرد في هذه العجالة، لأن الضمائر الشخصية هي سيدة المفردات في أية لغة كانت، وهي أول ما يتعلمه المرء عند دراسة لغة غريبة عنه. وضمير المتكلم المستخدم في اللهجات الكردية اليوم هو (أز ـ Ez) في اللهجة البادينانية و (مِن ـ Min أو أَمِن ـ Emin في لهجة أهالي هولير) في اللهجات السورانية والكورانية، والبادينان يستخدمون (مِن) كذلك في لهجتهم ولكن في حالة المفعولية، كما أن الإيرانيين والطاجيك في أفغانستان وطاجيكستان يستخدمون الضمير (مَن ـ Men) للدلالة على المتكلم المفرد، ويستخدم الأتراك الضمير (بَن ـ Ben) ولعله مأخوذ عن الفارسية. ومهما يكن الأمر فإن الملفت للنظر أن الضمير (أز ـ Ez) يستخدمه البادينان وهو موجود بصورة قريبة في لهجة البشتو الأفغانية بصورة (زي)، ونقطة الاستدلال هنا أن كتاب الأفستا ورد فيه ضمير المتكلم بهذه الصورة (أَزَم ـ Azam). وعلى الرغم من أن بعض الباحثين يرون الضمير الأفستي (أزم ـ Azam) مأخوذاً عن الضمير (أَدَم ـ Adam) في اللغة الهخامنشية القديمة فإن ذلك يبدو بعيداً بعض الشيء، وإن كانت الإمبراطورية الهخامنشية التي قامت على أنقاض دولة ميديا تعتمد في الأساس على اللهجات واللغات المنتشرة في إيران ومنها اللغة الكردية. ووجه التشابه في استخدام هذا الضمير بين اللهجة البادينانية ولهجة البشتو الأفغانية يؤكد النظرية التي تقول أن زرادشت المنحدر من ميديا إنما وجد أنصاره الأوائل في بلخ، وأنه فرض لغته على النصوص الدينية في الأفستا. والمفردة الثانية التي لها دلالاتها التاريخية هي (آزار) بمعنى الأذى، والأكراد اليوم في كل لهجاتهم تقريباً يستخدمون هذه الكلمة، وقد وردت هذه الكلمة في الأفستا (مُغ آزار أو مغوتبيش) في فصول (اليسنا 44 ـ قطعة 25)، وتعني من ينفر من المغان أو يؤذيهم، وطائفة الـ (مغان) كانت مسيطرة بقوة على منطقة ميديا، وكان الهخامنشيون ينفرون من المغان كثيراً، لا لأن المغان يدعون إلى ديانة زرادشت، بل لأن نفور البارسيين منهم كان مرجعه أنهم من أصل ميدي كما يرى المؤرخ إدوارد براون، والسبب الثاني لنفورهم من المغان أن الميديين قاموا بتمرد كبير على الهخامنشيين في زمن كمبوجيه أو (قمبيز وريث كوروش الكبير، وهو الاسم المستعمل في الكتابات التاريخية الحديثة)، وقد ذكر هذا التمرد داريوش الكبير في نقشه المحفوظ على صخور بهستون/بيستون: "ثم ثار رجل مغي (أي من طائفة المغان) يدعى كئوماتا (ربما هي كيومارتا = جيومرث) وخدع الناس بقوله أنا برديا بن كوروش أخو كمبوجيه، فثار الجميع على كمبوجيه، وناصرته فارس وميديا وسائر الولايات فاستولى على العرش .. ثم مات كمبوجيه منتحراً". وإذا سلمنا أن نسخة الأفستا قد حرقها (الإسكندر الرومي الملعون) وأن أردشير مؤسس الأسرة الساسانية أتم كتابتها من جديد، فيمكننا أن نحدس سبب كراهية ملوك الأشكان لطائفة المغ إلى الدرجة التي منعتهم من محاولة إعادة كتابة الأفستا، فقد حكموا بعد الهخامنشيين وبعد زوال خلفاء الإسكندر المقدوني أكثر من خمسمائة سنة، وسبب الكراهية هو أن المغان من أصل ميدي بينما الأشكان من أصول تورانية كما يميل كثير من المؤرخين، ولأنهم لم يكونوا من أصول إيرانية فقد حنق عليهم الفردوسي كثيراً بحيث لم يخصص لهم في سفره الضخم (شاه نامه) سوى صفحة واحدة، بينما خصص ستين ألف بيت من الشعر لتمجيد أباطرة الهخامنشيين والساسانيين. والمفردة الثالثة ترتبط بمعبد زرداشتي عريق هو معبد آناهيتا = آناهيدا = آناهيد = ناهيدا = ناهيد، وهذه الكلمة تعني كوكب الزهرة التي كانت ربة العشق والجمال، والطريف في الأمر أن العرب يطلقون اسم ناهد على بناتهم ويظنون خطأ أن الاسم عربي، فالمرأة الناهد والناهدة كما ورد في القاموس المحيط هي الكاعب (التي برز ثدياها)، ولا يخفى أن هذا الاستعمال وبهذه الصورة شنيع وفاحش، والأظهر أنه مأخوذ من ناهيد ربة العشق والجمال، والأكراد يطلقون هذا الاسم على بناتهم كذلك ولفظهم أقرب إلى أن يكون (ناهيدا).